حصاد الإجازة

خلق الله الخلق في هذه الحياة، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ليل يدبر، وصبح يتنفس، يُخلق أقوامٌ، ويُقبض آخرون، والحياة سائرة بسنتها وحكمها، والناس فيها يغدون ويروحون، مطيعٌ عليها وعاص، مؤمن وكافر، وهاهي الإجازة قد تصرمت أيامها، وتفرقت أوصالها، وحوت بين جنبيها حكماً وعبراً وأحداثاً، شقي فيها خلق، وسعد فيها آخرون، يتمنى فيها امرؤ زوال يومه ليزول معه غمه وهمه، وآخر يتمنى دوام يومه ليلتذ بفرحه وسروره، وفي تقلب أيامها مزدجر، وفي تنوع أحوالها مدكر، أمور تطرأ تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة.
قيل للربيع: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
وتقلبات الدهر وتصرم الأيام، ومضي المناسبات يجب أن تكون مواقف محاسبة ومساءلة، على المرء أن يقف وقفة صدق مع نفسه وذمته، فكل الناس عند ربهم موقوفون، وجميعهم بين يديه مسؤولون، الرسل وأممهم مسؤولون، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. وأهل الصدق مسؤولون، {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]. وذوو النعمة مسؤولون وعن النعيم محاسبون، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
والأيام تطوى والأعمار تفنى، والليل والنهار يُدنيان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، وفي سرعة مُضيها ما يذكر اللبيب بسرعة تصرم عمره، وقرب حلول أجله، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب يوم الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة).
أيها الأحبة: صفحات من الإجازة طواها دهر اليوم، يقول النبي : «كل الناس يغدو فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها»(صحيح ابن ماجه).
فصنف من الناس أمضوها من أجل القرب إلى الله، في طلب فنون العلم، لإدراكهم أن العلم يفضي بصاحبه إلى السعادة، فقليله ينفع، وكثيره يُعلي، فاجتهدوا في طلبه، واستعذبوا المشقة في حفظه، طووا فراش التواني والكسل، فنالوا من الفضائل المزيد، عليهم بهاء الطاعة، وأنوار العبادة، آثروا الفاني على الباقي، وهؤلاء هم الأتقياء، سادة الناس في الآخرة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
وممن ابتغى طرق الخير ورياض الجنة من دعا إلى الله على بصيرة، بحكمة وموعظة حسنة، ملتزماً بالكتاب والسنة، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ناصحاً لمن ولاه الله أمره، حافظاً أمانة الله فيهم، ساعياً في إصلاحهم، ليكونوا عوناً له في الحياة، وذخراً له بعد الممات، فهذا قد تمطى ركائب المجد ورام الخير لنفسه، والسلامة لدينه قال -عز وجل-: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء:19].
وصنف أحدق بصره، وأظلم قلبه بمرئيات ذوات أطباق، عاش معها خيالاً، وطلب فيها محالاً، أفنى عمره بالندم، وقواه بالحسرة، فهذا كما بدأت عنده الإجازة انتهت، لا لدنيا جمع، ولا لآخرة ارتفع.
وآخرون أفلت شمس عودتهم من سفر محرم، من ديار تحمل في طياتها أخطاراً على العقيدة والأخلاق فهؤلاء مغبونون خاسرون، ذلك أن منهم من لوث معتقده، ودنس ولاءه وبراءه، وبعثر أمواله في المنكرات والمحرمات، ومنهم من أوغل في الظلم، فاستصحب معه نساءه، ومن تحت يده من بنين وبنات ممن نشأ على الفطرة ليذيقهم حظهم من الشقاء، وتستمرىء نفوسهم الاستخفاف بالمعاصي، من أفعال تسقط المرؤة، وتقضي على الفضيلة، في ديار تلاطمت فيها أمواج الفتن، واشرأبت فيها مهاوي الرذيلة، النبي ينهى عن التطلع إلى الفتن والاستشراف عليها، وذا ينغمس بأهله وولده في ضحلها ودركها، فضيع الأمانة، وفرط في الرعاية، قال تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].
ما هكذا تقابل نعمة المال والعافية والبنين، بالجحود والنكران. إن المأمول من الآباء السعي إلى إصلاح ذويهم، لا الزج بهم في أماكن الفتن، وتعريض قلوبهم المظلمة والانحراف عند أدنى محنة، والضلال عند أول فتنة.
قال أهل العلم فالشبهات والشهوات أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده).
ومنهم من إذا عاد من هناك تراه ينزع جلباب الحياء لما اقترفته جوارحه من محرمات، فيهتك ستر الله عليه، ويرغب السامع في تلك الآثام ويحسنها له، ويمدحها عنده، فيتفاحش ذنبه.
إن الافتخار بالمعصية أمارة على موت القلب وفساد الفطرة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» [متفق عليه].
ما ظهرت معصية على نعمة إلا سلبتها، ولا تمكنت من قلب إلا أفسدته، تزيل النعم الحاصلة، وتمنع الآلاء المقبلة، فاحرص على محاسبة نفسك، واحذر مزالق الهوى ونزعات الشيطان، وسوء الخاتمة، فقد أحصيت عليك اللفظة والنظرة، وعاتب نفسك على التقصير، واحمد الله أن فسح لك في الأجل، وبادر بتوبة نصوح، فإن الله يفرح بتوبة التائب، وإياك والتسويف، فمن استعمل التسويف والمنى لم ينبعث إلى العمل.
ومن وصايا لقمان: يا بني لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة، فالسعيد من أخذ من نفسه لنفسه، ومهد لها قبل يوم رمسه.
يقول وهب بن منبه: (من جعل شهوته تحت قدميه فزع الشيطان من ظله، فاستلب الزمن، وغالب الهوى، وحاسب النفس، وامح القبيح، واستعد لملمات الممات، واستدرك هفوات القوات، فالترحل من الدنيا قد دنى، والتحول منها قد أزف، ومن أصلح ما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وبما بقي، والأيام مطايا، والأنفاس خطوات:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]).
أخي المسلم: قد أظلنا عام من التعليم جديد، متعدد العلوم، متنوع المعارف، والعلوم تختلف فضلاً وقدراً باختلاف المقاصد، وتتفاوت سمواً ورفعة باختلاف الموارد، وأكبر العلوم وأنفعها للإنسان ما تحصل به سعادة قلبه وانشراح صدره، وهو ما أخذ من كتاب الله وسنة رسوله ، وما اكتسب مُكتسب مثل علم يهدي صاحبه إلى هدى، أو يرده عن ردى، وإذا حُفظت العقول والأخلاق، وأحيطت بسياج الدين المتين، ورٌبطت برباط العقيدة الوثيق، صلحت الأعمال، والعلم لا ينال إلا على جسر من التعب والمشقة، ومن لم يصبر على ذل التعلم ساعة تجرع كأس الجهل أبداً، ولا يتم الأمر إلا بصلاح النية، والإخلاص لله في طلبه، ونشره من المعلم والمتعلم، وعلى الجميع الاتصاف بسمات السلف الصالح، الذين ينشرون العلم محبة له وللعمل به، قال تعالى: {وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. وعلى المعلم أن يتحرى الأمانة والعدالة في التقويم، وإن الحرص ودقة المتابعة من أولياء الأمور لأبنائهم في تعليمهم فعل محمود، وتوجيههم في اختيار صحبتهم أوجب من ذلك، فتربية الأولاد على الإيمان والتقوى والعمل أمانة كبرى عنها تسألون، فقوموا بها كما أمرتم، وإياكم والتفريط، فإنكم على أعمالكم محاسبون، وبأفعالكم مجزيون.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكاتب سلمان بن احمد العيد

عن salman